عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العُزَّى بن رِيَاحِ بن عبد الله بن قُرْط بن رَزَاح بن عَدِيِّ بن كعب بن لُؤَي بن غالب القرشي العدوي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّمَا الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَاَنْتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». متفق على صحته؛ رواه إماما المحدثين: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَة الجُعْفِي البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري رضي الله عنهما في «صحيحيهما» اللذين هما أصح الكتب المصنفة.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
لما كان هذا الباب في الإخلاص؛ إخلاصِ النيَّة لله عز وجل، وأنه ينبغي أن تكون النية مُخْلَصةً لله في كل قول، وفي كل فعل، وعلى كل حال: ذكر المؤلف من الآيات ما يتعلَّق بهذا المعني، وذكر رحمه الله من الأحاديث ما يتعلق به أيضًا، وصَدَّر هذا بحديث عمر بن الخطاب الذي قال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى».
هاتان الجملتان اختلف العلماء رحمهم الله فيهما:
فقال بعض العلماء: إنهما جملتان بمعنى واحدٍ، وإن الجملة الثانية تأكيد للجملة الأولى.
ولكن هذا ليس بصحيح؛ وذلك لأن الأصل في الكلام أن يكون تأسيسًا لا توكيدًا، ثم إنهما عند التأمل يتبيَّن أنَّ بينهما فرقًا عظيمًا؛ فالأولى سبب، والثانية نتيجة:
الأُولى سبب؛ يبيِّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ كُلَّ عمل لا بد فيه من نِيَّة؛ فكل عمل يعمله الإنسان وهو عاقل مختار، فلا بد فيه من نيَّة، ولا يمكن لأي عاقل مختار أن يعمل عملًا إلا بِنِيَّة؛ حتى قال بعض العلماء: «لو كَلَّفَنَا اللهُ عملًا بلا نية، لكان من تكليف ما لا يُطاق!».
وهذا صحيح؛ كيف تعمل وأنت في عقلك، وأنت مختار غير مكره، كيف تعمل عملًا بلا نيَّة؟! هذا مستحيل؛ لأن العمل ناتج عن إرادة وقدرة، والإرادة هي النية.
إذًا الجملة الأولى معناها: أنه ما من عامل إلا وله نية، ولكنَّ النياتِ تختلف اختلافًا عظيمًا، وتتباين تَبَايُنًا بعيدًا، كما بين السماء والأرض.
من الناس من نِيَّته في القمة في أعلى شيء، ومن الناس من نِيَّته في القمامة في أَخَسِّ شيء، وأدني شيء؛ حتى إنك لترى الرجلين يعملان عملًا واحدًا يتفقان في ابتدائه وانتهائه وفي أثنائه، وفي الحركات والسكنات، والأقوال والأفعال، وبينهما كما بين السماء والأرض، وكل ذلك باختلاف النيَّة.
إذًا، الأساس أنه ما من عمل إلا بِنيَّة، ولكن النيات تختلف وتتابين.
نتيجة ذلك قال: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»؛ فكل امرئ له ما نوى: إنْ نوى اللهَ والدار الآخرة في أعماله الشرعية، حصل له ذلك، وإن نوى الدنيا، فقد تحصل وقد لا تحصل.
قال الله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ [الإسراء: 18]؛ ما قال: (عجلنا له ما يريد)؛ بل قال: ﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ﴾؛ لا ما يشاء هو؛ ﴿ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾؛ لا لكل إنسان، فَقَيَّد الْمُعَجَّل وَالمُعَجَّل له؛ فمن الناس مَن يُعطى ما يريد من الدنيا، ومنهم مَن يُعطى شيئًا منه، ومنهم مَن لا يُعطى شيئًا أبدًا.
أما: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19]؛ لا بد أن يجني ثمرات هذا العمل الذي أراد به وَجْهَ الله والدار الآخرة.
إذًا «إِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، وقوله: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» إلخ؛ هذه الجملة والتي قبلها ميزان لكل عمل؛ لكنه ميزان الباطن، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان، عن عائشة رضي الله عنها: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»؛ ميزان للأعمال الظاهرة.
ولهذا قال أهل العلم: «هذان الحديثان يجمعان الدين كله»: حديث عمر: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ميزان للباطن، وحديث عائشة: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا» ميزان للظاهر.
ثم ضَرَبَ النبي صلى الله عليه وسلم مثلًا يُطَبِّقُ هذا الحديثَ عليه؛ قال: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَاَنْتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»:
«الْهِجْرَةُ»: أن ينتقل الإنسان من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ مثل أن يكون رجل في أمريكا - وأمريكا دار كفر - فيسلم، ولا يتمكن من إظهار دينه هناك، فينتقل منها إلى البلاد الإسلامية، فهذه هي الهجرة، وإذا هاجر الناس، فهم يختلفون في الهجرة.
الأول منهم: مَن يهاجر، ويدع بلده إلى الله ورسوله؛ يعني إلى شريعة الله التي شرعها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الذي ينال الخير، وينال مقصوده؛ ولهذا قال: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ»؛ أي: فقد أدرك ما نوى.
الثاني من المهاجرين: هَاجَرَ لدنيا يصيبها؛ يعني: رجل يحب جمع المال، فسمع أن في بلاد الإسلام مرتعًا خصبًا لاكتساب الأموال، فهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام؛ من أجل المال فقط، لا يقصد أن يستقيم دينه، ولا يهتم بدينه، ولكن همه المال.
الثالث: رجل هاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام؛ يريد امرأة يتزوجها؛ قيل له: لا نزوجك إلا في بلاد الإسلام، ولا تسافر بها إلى بلد الكفر، فهاجر من بلده - بلد الكفر - إلى بلاد الإسلام؛ من أجل أن يتزوج هذه المرأة.
فمريد الدنيا ومريد المرأة، لم يهاجر إلى الله ورسوله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، وهنا قال: «إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، ولم يقل: «فَهِجْرُتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا»؛ فلماذا؟
قيل: لطول الكلام؛ لأنه إذا قال: «فَهِجْرُتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا»؛ صار الكلام طويلًا، فقال: «هِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
وقيل: بل لم ينص عليهما؛ احتقارًا لهما، وإعراضًا عن ذكرهما؛ فلأنهما حقيران؛ أي: الدنيا، والزوجة؛ ونيَّة الهجرة - التي هي من أفضل الأعمال - لإرادة الدنيا والمرأة؛ نيَّة منحطة سافلة، قال: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»؛ فلم يذكر ذلك احتقارًا؛ لأنها نيَّة فاسدة منحطة.
وعلى كل حال - سواء هذا أو الجميع - فإنَّ هذا الذي نوى بهجرته الدنيا، أو المرأة التي ينكحها، لا شك أن نية سافلة منحطة هابطة، بخلاف الأول الذي هاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
.